halimyoussef - Halim Youssef - Page 6

في حوار مع شبكة آسو لا توجد رواية كردية تكتب بلغة غير اللغة الكردية

أجرت الحوار آريا حاجي

النص الكامل للحوار الذي أجرته معي شبكة آسو وتم نشره في موقع الشبكة بشكل مجتزأ

أبريل 2019

كيف تصف واقع الرواية الكردية اليوم؟

يمكننا التحدث عن واقع جديد للرواية الكردية تشكل مع بداية تسعينيات القرن المنصرم وحتى الآن ، وذلك بعد تحولات سياسية وثقافية هائلة شهدتها كردستان بجزأيها الجنوبي والشمالي. في جنوبي كردستان بدأ الكرد يتمتعون بنوع من الأمان بعد الحماية الأمريكية لسماء كردستان وتمتع الاقليم الكردي بنوع من الاستقلالية والحرية، فشهدت اللغة الكردية والكتابة بها مرحلة جديدة. وفي تلك الأثناء تم رفع الحظر عن اللغة الكردية ولو بشكل جزئي في شمالي كردستان وتركيا، فصدرت المجلات والكتب الكردية ونفضت الكردية عن نفسها غبار عقود من التهميش والانكار والقمع. وتلى كل ذلك ما حدث في روجآفا من تحولات تاريخية شهدتها اللغة الكردية التي بدأت تدخل المدارس وتنتقل من حيزها الشفوي الى حيز كتابي يضمن لها البقاء والاستمرار. وفي ظل هذه التحولات الهائلة التي جرفت معها اللغة الكردية من حال الى حال، شهدت الرواية الكردية نوعا من النهوض الذي تجسد في بروز جيل كامل من الروائيين الكرد الذين يقدمون نتاجات ملفتة تتأسس على محاولة جدية لانتاج أدب كردي حديث لا يقل جودة فنية عن الأدب الذي يكتب بلغات أخرى. وفي هذا الاطار يمكننا التحدث عن رواية كردية جديدة لا تقل عن الروايات التي نقرؤها في اللغات الأخرى، لكنها لا تضاهي روايات اللغات الأخرى من حيث العدد, وذلك لأسباب لا تخفى على أحد. أنا متفائل بمستقبل الرواية الكردية.

هل استطاعت الرواية الكردية الوصول إلى عمق الواقع الكردي بمعنى آخر هل هناك نتاجات من صلب الواقع في المنطقة؟

كل الروايات المكتوبة بالكردية تستقي مواضيعها من صلب الواقع الكردي وتغوص عميقة في حيثيات الجرح الكردي المفتوح على جهات أربعة. هناك من يعتبر ذلك مأخذا على الرواية الكردية ويتهمها بالدوران في فلك الهم القومي والسياسي، الا أن ذلك يعتبر نتيجة طبيعية للتراجيديا المتواصلة التي يعيشها الكردي دون غيره منذ قرون. تتنوع المواضيع في الرواية الكردية بتنوع الحياة وتعدد ألوانها، لكن الجرح الكردي الغائر في عمق التاريخ يجذب كل الروايات الكردية نحوها بشكل أو بآخر. ان الرواية الكردية مرشحة أكثر من غيرها من الأجناس الأدبية لتوثيق الألم الكردي من ناحية ولنقله خارج الجغرافيا الكردية ونشره في كل أصقاع العالم من ناحية أخرى.

كروائي كردي أي اللغات تستطيع عبرها إيصال الهدف من روايتك “اللغة الكردية أم العربية”؟

يتوجب أولا وضع النقاط على الحروف ونفض غبار الالتباس عن المصطلح. الروائي الكردي هو الروائي الذي يكتب رواياته باللغة الكردية، ولا يمكن اعتبار الروايات العربية جزءا من الأدب الكردي وان كان كتابها كردا. بالنسبة لي كتابة رواية كردية جميلة بحد ذاتها هدف. الرواية لدي ليست وسيلة للوصول الى شيء ما أو تحقيق هدف ما وانما هي غاية بحد ذاتها. بدأت النشر بالعربية في بداياتي ومنذ صدور مجموعتي القصصية الأولى “موتى لا ينامون” بالكردية في العام 1996 وحتى الآن تراجعت الكتابة بالعربية لدي وأصبحت في المرتبة الثانية بعد لغتي الأم، الكردية، الا أنني لم أتخل عن الكتابة بها حتى اليوم. وقد استقر بي الحال على ذلك وسأستمر على هذا المنوال. أي أنني عدت الى طبيعتي. من الطبيعي أن يكتب الفرنسي بالفرنسية، العربي بالعربية، الألماني بالألمانية والكردي بالكردية. وبذلك فان الكردية بالنسبة لي هي اللغة الأكثر قدرة على التغلغل في حرائق الروح والقبض على جمرة الكتابة باحكام وبكل الأصابع. لمَ ننجح كروائيين كرد في الكتابة بغير لغتنا أكثر من الكتابة بلغتنا ؟ ألا زلنا ضحايا الاستبداد ؟ أم إننا لم نعد نأبه باللغة التي حرمنا منها ؟ ما رأيك ؟في هذا السؤال مغالطات عديدة، لا توجد رواية كردية تكتب بلغة غير اللغة الكردية، لذلك فان الروائيين الذين يكتبون بغير لغتنا هم روائيوا تلك اللغة ولا علاقة لهم بالأدب الكردي. وفي المراحل السابقة وحتى ثمانينيات القرن الماضي، ونتيجة منع الكردية وتداولها واستحالة العثور على المصادر الكردية، يمكن فهم اقبال الكتاب الكرد على الكتابة بلغات الدول التي تتقاسم الوطن الكردي ومنها العربية. وقد برزت أسماء كردية كثيرة في الشعر السوري وفي القصة السورية الحديثة وفي الرواية السورية على سبيل المثال. الا أنه لا يمكن تصنيف نتاجاتهم في خانة الأدب الكردي وان انحدر أصحابها من أصول كردية. وفي رأيي لم يعد مقبولا أن يصر الكاتب الكردي اليوم على الكتابة بلغة غيره، طالما أن التطورات التكنولوجية أتاحت تعلم الكردية للجميع. ولا يعني هذا التخلي عن الكتابة باللغات الأخرى. ومن باب التوضيح أقول بأنني لست ضد الكتابة بأية لغة من لغات العالم، وكل كاتب حر في اختيار اللغة التي يكتب بها. الا أن رأيي هو أن اللغة هي التي تحدد هوية الأدب الذي ينتمي اليه هذا الكاتب أو ذاك.

إلى ماذا تحتاج الرواية الكردية لتصل لمستوى الروايات العالمية؟

علينا أن ندقق في ماهية مصطلح “الرواية العالمية” قبل أن نغرق في تحليل الأسباب والنتائج. ان العالمية خاضعة الى أمر محوري في هذا السياق وهو التسويق. ومن يقف وراء تسويق هذه “الروايات” هي دور نشر كبيرة لها رأسمال ضخم، بالاضافة الى بعض الجوائز العالمية كنوبل للآداب وغيرها. ولو تبنت دار نشر غربية ضخمة تسويق احدى الروايات الكردية لوصلت الرواية الكردية الى العالمية بين ليلة وضحاها. والمربك في المسألة أن المعايير التي تتحكم بتبني دور النشر هذه لهذه الرواية أو تلك على الأغلب ليست فنية، وانما تخضع لقضية التسويق. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فان عدم وجود دولة كردية أو كيان سياسي كردي يعني عدم وجود مؤسسات ثقافية أو مؤسسات خاصة بالترجمة وعدم توفر الدعم المادي، كل ذلك يحيلنا الى القول بأن الطريق أمام الرواية الكردية مليئة بالمصاعب والعوائق. وكل ما تبقى للروائيين الكرد هي الجهود الفردية التي يبذلونها لترجمة رواياتهم الى لغات أخرى. هي جهود جبارة، لكنها تظل محدودة التأثير والاتساع في ظل انعدام الدعم المؤسساتي لها. حتى الآن

لماذا ترتكز الثقافة الكردية على الشعر و القصة أكثر من الرواية؟

بقيت الثقافة الكردية طوال التاريخ شفوية ولم تتح لها فرصة الكتابة الا مؤخرا. وفي تاريخ الأدب الكردي المكتوب نعثر على فجوات تاريخية تجعلنا نستغرب من بقاء هذه اللغة حية حتى الآن أمام قتلها المتواصل على يد الترك والعرب والفرس وهدر دم من يكتب بها. الشفوية هي السمة الأبرز لهذه الثقافة. وأكثر الأجناس الأدبية قابلة للتداول الشفوي من جيل الى آخر هو الشعر، وتأتي الحكاية الشعبية التي تناقلها القوال والمغني الشعبي في المرتبة الثانية، حيث تناقلت الأجيال عشرات الملاحم والقصص والحكايات الشعبية التي دونت فيما بعد على أيادي الباحثين. وجمع بعض الكتاب الكرد تلك القصص في كتب خاصة وجدت طريقها الى النشر في السنوات الأخيرة. وأعداد هذه الكتب التي تتضمن الحكايات الشعبية أكبر بكثير من أعداد المجموعات القصصية التي تتضمن القصة الحديثة. وان كان التراث الكردي بشكل خاص والشرقي بشكل عام يحتوي على الكثير من القصص والروايات والحكايات التقليدية الا أن الرواية بمفهومها الحديث المتعارف عليه اليوم هي ابنة شرعية للثقافة الغربية، وقد انتقلت الى الثقافة الشرقية بعد مرور عقود على ولادتها . لذلك فان بدايات الرواية العربية مثلا تعود الى بدايات القرن العشرين، وكذلك الرواية الكردية فقد ولدت في بداية الثلاثينات من القرن المنصرم.

هل تقوم الجهات المعنية و الاتحادات الثقافية بكامل واجباتها تجاه تطوير الرواية الكردية و تقديم ما يلزم لها؟

لا توجد جهات معنية بالرواية الكردية، وما من مؤسسات سياسية أو ثقافية كردية تدعمها على الاطلاق. كما أن الاتحادات الثقافية لا حول لها ولا قوة بهذا الخصوص. ما من جهة وما من أحد وما من طرف يمكن التعويل عليه لتطوير الرواية الكردية سوى الروائيين الكرد أنفسهم. الأمر يتوقف عليهم، على جهودهم الشخصية، على طاقاتهم الإبداعية وعلى تفانيهم في العمل على الاستفادة من التقنيات الهائلة التي تم اعتمادها عبر التاريخ الطويل للرواية وتسخيرها في خدمة الرواية الكردية، لكتابة رواية جميلة، شكلا ومضمونا، لا تقل شأنا عن الرواية التي تكتب في اللغات الأخرى على امتداد العالم.

واقع دور النشر و الطباعة في المنطقة و مدى تأثيرها على تطور الواقع الثقافي ككل. كيف يؤثر الدعم المادي وغياب حقوق الطبع والنشر على الحالة الإبداعية لك كروائي وللروائيين الكرد بشكل عام ؟

أكثر من ربع قرن مر على صدور أول كتاب لي، منذ ذلك التاريخ وحتى الآن لم أتلق أي دعم مادي أو غيره من أية جهة كانت لطباعة كتبي وأعمالي، سوى من والدي رحمه الله، الذي طبع كتابي الأول على حسابه وندم فيما بعد على خسارته المادية مقابل نشر القصص “الفاضحة” التي نشرتها في كتابي الذي أنزل علي غضب من كتبت عنهم في بلدتي الحبيبة، عاموده. وقد شعر أبي الذي لم يكن يعرف العربية في حياته كلها بأنه خدع من قبلي، بعد أن سمع فيما بعد من الآخرين وبعد حدوث خناقات ومشادات حول بعض القصص، بأنها قصص “فضائحية” على حد قوله. بالنسبة لي، لا توجد أية مشكلة أو صعوبة في طباعة ونشر رواياتي بالكردية، حيث تصدر كل كتبي الجديدة منها والقديمة منها بطبعاتها الجديدة عن دار بيوند في استانبول وآمد، وفق الشروط المتبعة من ناحية حماية حقوق المؤلف وما الى ذلك من قواعد متعارف عليها بخصوص الطباعة والنشر. أما عن الدعم المادي، فقد فهمت موضوع انشغالي في مجال الكتابة الكردية مبكرا. عرفت منذ البداية بأنني لا أستطيع العيش من خلال الكتابة الكردية، لذلك قررت أن أبحث عن عمل أعيش منه وأدير من خلاله أموري المعيشية والحياتية، وأن أتابع عملي في مجال الكتابة الكردية جنبا الى جنب مع هذا العمل. وهذا ما أفعله الآن. انه أمر بالغ الصعوبة، لكن لا خيار أمامنا سوى ما ذكرت.

إن سمحنا لأنفسنا أن ندخل لأغوارك قليلاً ، فما المشاعر المكتومة التي سنجدها في أعماقك ولم تلق فرصة كي تخطها على الورق أو على شاشة اللابتوب ؟ خصوصاً في آخر ٨ سنوات ؟

عندما أكتب أترك شرطي المجتمع والسياسة أمام الباب، وأقوم برحلة الغوص اللذيذ في الأعماق، في الأخيلة، وفي سبر الأغوار بكل حرية. أطلق العنان لمشاعري ولأحاسيسي ولخلجات روحي أن تتدفق كما تشاء لها سخونة اللحظة التي أعيشها وقت الكتابة. وأترك مساحة صغيرة للعقل بأن يتحرك فيها لينسج خيوط اللعبة الفنية التي تساهم في بناء النص الأدبي الذي أعمل عليه. هذا بشكل عام، لذلك لمن يود معرفتي يمكنه العودة الى كتبي، روحي تتسرب بين حروف كل كلمة أكتبها، ولم أمنع نفسي يوما، تحت أي ظرف كان، من قول ما يجب أن يقال. لذلك لا توجد في أعماقي مشاعر مكتومة لم تتسرب الى كتبي بعد. أما ما يتعلق بأحداث السنوات الأخيرة في روجآفا وفي عموم سوريا فقد عشت تفاصيلها اليومية، رغم بعدي الجغرافي، عن المكان. روايتي الصادرة حديثا ” الوحش الذي في داخلي” تتناول البحث عن الذي أيقظ الوحش الذي كان نائما في داخل كل منا، نحن أبناء وبنات هذا المكان المنكوب. وروايتي القادمة التي انتهيت من كتابتها للتو تتناول أيضا وجها آخر من وجوه هذا المكان في بحثه الفاجع عن سراب يتموج على شكل حرية. لقد قلت حتى الآن كل ما كنت مقتنعا به، قلت كل ما كان يجب أن يقال.

رواية “الوحش الذي في داخلي” لـ حليم يوسف.. أصنامٌ تغتصب السوريين

تاريخ النشر: 26.03.2021 | 10:54 دمشق

ضاهر عيطة

يفكك الكاتب السوري الكردي “حليم يوسف” صور الحياة السورية الاعتيادية، ليصل إلى ما هو خفي منها، وهو وإن كان يؤسس للمتخيل، ولجعله موضوعاً لروايته “الوحش الذي في داخلي” إنما يوظفه، كمعادل موضوعي للواقع السوري، الذي حكم لعقود من قبل آل الأسد، أو”عائلة الوحش” جاعلًا من تمثال حافظ الأسد، تيمة أساسية في روايته، لا بوصفه مجرد كتلة حجرية، إنما كائن ينتمي إلى فصيلة الوحوش، وقد حل بغتة على حياة السوريين، ليغتصب المكان، ويخنق حركة الزمان، وتتسللت سموم أنفاسه إلى أرواحهم، فيتحول من يقطن في هذا الفضاء السوري، نسخة عن هذا الكائن الحيواني، وتماثيله تتناسخ عنها آلاف التماثيل، لتجثم على الصدور، كلعنة، فمعظم المهن والفنون، باتت تقتصر على صناعة ونحت التماثيل، ولأجلها تستهلك الأعمار، كحال النحات الأرمني “آرام” الذي ينحت تلك التماثيل في العلن، ويمارس البكاء في الخفاء، حتى صار للتماثيل قدرة التحكم في حياة الناس.”سالار” بطل الرواية، يخرج من رحم أمه عند قاعدة التمثال، ورغم أن المخاض كاد يميت الأم “سوسن” وقد استعصى على الداية التعامل معه، فتنصح”الحاج محمود” بنقل زوجته إلى المشفى فورًا، وتحت جنح الظلام، بواسطة عربة يجرها حصان “سوسن” لا تكف عن صراخاتها المرعبة طوال الطريق، حتى تمنى “الحاج محمود” لو أن أصوات أذان الفجر المنبعث من المسجد لا تنقطع، عساها تطغى على صراخ زوجته، غير أن صوت أذان الفجر توقف، وصراخ الأم استمر يشق عنان الصمت، ولكن ما إن تصل بهم العربة عند قاعدة تمثال الرئيس، تحدث المعجزة، ويخرج الجنين “سالار” فجأة من رحم أمه، وهو في طبيعة تكوينه الجسدي أقرب ما يكون إلى حيوان، إذ سرعان ما نبت له ريش وأجنحة، وراح يطير بعيدًا، ليسبق الأم والأب إلى البيت، ونظرات التمثال تبتسم للأم الغارقة بدمها وهي عند قاعدته. هو حلم كابوسي، راود الأم”سوسن” حين ولدت طفلها “سالار” وكلما مرت قرب التمثال و”سالار” برفقتها، تتذكر ذلك الكابوس، والطفل يصر على الوقوف أمامه، طارحًا جملة من الأسئلة المحرمة على والدته: “لماذا يبقى التمثال رافعًا يديه طوال الوقت؟ ألا يتعب؟ ألا يتبول مثل الناس جميعًا؟ ألا يآكل؟ ألا يموت..؟”.والأم تتحسس اقتراب اللعنة التي ستحل عليهم جراء تلك الأسئلة القاتلة، وعن هذا التمثال، تتناسخ عنه عدة سلالات من الوحوش، ليتم ترويضها، فتتحول بدورها إلى وحوش مشابهة، حتى أن الطفل “سالار” لا ينجو من التحول، الذي بدأت ملامحه تتبلور، منذ اليوم الأول لدخوله المدرسة، حيث تستأصل منه عفوية الطفولة من قبل مدير المدرسة، حين دخل عليهم الصف، مباغتًا الأستاذ “آلان” الذي كان يعطي درسًا في اللغة العربية، ويقرأ سورة يوسف، بصوت رقيق عذب، وهو لا يكف عن البكاء، مما دفع “سارلا” للبكاء بدوره، رغم عدم فهمه لمضمون الآية، لكن مع دخول مدير المدرسة، وحديثه عن المظاهرة المليونية التي ستقيمها الجماهير لأجل تخليد حياة القائد، تعم أجواء الصف حالة الرعب والقهر، والطفلة “مريم” ماعادت تستمتع بشد ضفائرها من قبل الأصدقاء، وفي اليوم الثاني، في خضم المظاهرات يحاول “سالار” أن يخرج عن قطيع المتظاهرين، وينفرد للعب في زاوية وسط هتاف الجماهير بحياة الأب القائد، لكن سرعان ما يتلقى عقوبة عن لهوه هذا، فيداهم عناصر الأمن منزله، ويعتقلونه مع والده، لكونه لم يحسن تربيته، وإن كانوا قد أفرجوا عنهما بعد فترة قصيرة، فإن مصير الأستاذ “آلان” يكون أشد رعبًا وهولًا، والتهمة “عدم تربية طلابه على حب القائد” مما يكلفه سنين طويلة من عمره يقضيها في المعتقل، وابنته “مريم” صديقة “سالار” في الصف، تعيش في يتم وحزن، وحين بلغت عمر الصبا، و”سالار” واقعًا في هواها، لم يستطع الأخير أن يلتقي بها في أي مكان على أرض هذه البلاد، إلا في أرجاء المقبرة، على أجساد الموتى، وهناك راحت تنشأ قصة حب كتب لها أن تموت وهي لم تكد تولد بعد، حين يعتقل “سلار” العائد قريبًا من بيروت، بعد أن أكمل تعليمه في اللغة الفرنسية. فقط لمجرد الشك في احتمال أن يكون هو صاحب الكتاب الذي يحمل عنوان “الأب والابن” ليقضي بدوره سنوات شبابه في المعتقل، وحين يخرج منه، ويعود إلى البيت، يباغت بموت أمه، وقد صار والده عجوزًا، ووحيدًا، وحتى وإن كان أستاذه “آلان” قد خرج من السجن، فيخرج منه وقد استحال إلى هيكل عظمي، غير أن الصدمة الكبرى بالنسبة إلى “سالار” غياب “مريم” عن البيت، وزواجها. على هذا النحو تنتهي مصائر الناس، وقصص الحب، والأحلام في بلد تحكمه التماثيل الحجرية، كحال النحات “آرام” الذي استهلك عمره في نحت التماثيل، وما من خيار أمامه، طالما أن عناصر الأمن، يواظبون على التردد إلى مرسمه، وحال صاحب المكتبة لا يختلف، فالمكتبة التي كانت المكان الأعز لدى “سالار” تغدو فضاء يعج بعناصر الأمن، ونتيجة للقهر والرعب، يغدو صاحب المكتبة عنصر أمن، ويأخذ على عاتقه التحقيق مع “سالار” عما إن كان هو مؤلف كتاب “الأب والابن” ومن الطريف والعبثي، أن ثمة تقارير في الأفرع الأمنية عن مشتبه بهم، من أمثال المفكر الفرنسي “جان بول سارتر”، والرسالم الهولندي “رامبرانت” وغيرهم، وتصدر بطاقات بحث عنهم في الحواري والأزقة السورية. وكان من الطبيعي في مثل هذه الأجواء الموبؤة بالوشيات والرعب والخوف، إنتاج كائنات متوحشة، حتى إذا ما آن الأوان، سارعت إلى نهش لحم بعضها، ليكتشف “سالار” أنه تحول بدوره إلى وحش، وقد نبتت لديه ذيول، كما حال الآخرين الذين يحيطون به.ضمن هذه الأجواء الغرائبية، صاغ حليم موسى روايته، كمقاربة فنية لواقع الحياة السورية، ليدخلنا في دهاليز ومتاهات، مدللًا من خلالها على مكامن العطب في الحياة السورية، ليكنس العماء الذي استحكم بالإنسان الكردي والأرمني وغيرهما من المكونات السورية، ممن ولد وترعرع في دولة البعث، مفككًا أسرار ما آلت إليه الأمور في الوقت الراهن. فحين يتم الإفراج عن “سالار” يكون قد تحول إلى وحش، في لحظة كانت فيها سلطة الأجهزة الأمنية، أحوج ما تكون لأمثاله من الوحوش، لغزو الشوارع والمدن، لاسيما وأن ضيق السجون بالمتظاهرين، لم يعد يستوعب أعداد الوحوش فيها، مع من يتم الزج بهم حديثًا لتكتمل عمليه وحشنتهم في المعتقلات، وهي وإن كانت مجرد استعارات، وترميزات، إلا أنها صورت بدقة متناهية حقيقة ما جرى في سورية، الدولة المتوحشة، وكلما ظهرت أداة تحول دون توحش الكائن الإنساني فيها، كالكتب واللعب والحب والفن؛ يتم حرقها وخنقها. حتى أن الأغاني والألحان الموسيقية التي كان يواظب عليها “خليلو” الأعمى، آتت الوحوش المتناسخة عن التمثال الحجري لتستأصلها من حياته، وكان لـ”خليلو” الأعمى، صديق “سالار”، الأثر الأكبر في مقاومة هذه الوحشية، عبر معزوفاته الموسيقية وأغانيه العذبة، إلى حد بدا فيه “خليلو”، وكأنه حارس على ما تبقى من الجمال في الحياة، غير أن تلك الحياة وأناسها، بدوا وكأنهم محكومين بلعنة الطاعون، وما من خلاص منها، طالما وأن التماثيل الحجرية جاثمة على صدورهم، وكأن نبوءة الأم “سوسن” كانت تحاكي نبوءة العراف “ترسياس” في مسرحية “أوديب ملكًا” حول مصير ابنها “سالار” الذي يمضي باحثًا عن مصدر هذا الطاعون، ما أوصله في نهاية المطاف إلى الاغتراب عن نفسه، تواقًا للعود إلى رحم الأم، أو الموت، كما هام “أوديب” في عماء عتمته، حين أدرك سبب الطاعون، واستمرت ماكينة الخياطة، بصوتها الذي يطحن عمر والدة “مريم” تعكس أثرًا كبيرًا في خلق الإيقاع الموجع الذي طغى على أجواء رواية حليم يوسف.