تسع وتسعون خرزة مبعثرة”.. مُضطهدٌ تلاحقه أوجاع المضطهدين - Halim Youssef

تسع وتسعون خرزة مبعثرة”.. مُضطهدٌ تلاحقه أوجاع المضطهدين

April 12, 2023
  • جريدة الأيام الفلسطينية – بديعة زيدان
  • 11.04.2023

خرزة مبعثرة”.. مُضطهدٌ تلاحقه أوجاع المضطهدين

2023-04-11
كتبت بديعة زيدان

رواية “99 خرزة مبعثرة” للسوري الكردي حليم يوسف، تحكي قصة اليتيم “آزاد” ابن مدينة “عامودا” الكردية على الحدود التركية السورية، والذي يهاجر إلى ألمانيا هرباً من القمع والإذلال على يد “النظام المستبد” في سورية، ليصبح لاجئًا في مخيم هناك.
“آزاد”، وبحصوله على حق الإقامة، يختار الترجمة مهنته، فهي وفقاً له، وسيلة لبناء الجسور، لكنه لم يكن مُترجماً لأناس سعداء، بل لمئات المهاجرين ممّن عانوا من أمراض نفسية وعقلية، بحيث نَقل، أو عمل على نقل آلامهم ومعاناتهم الشديدة إلى علماء النفس والمسؤولين الألمان، خصوصاً أنه، وفي كل مرّة، تصبح حكاية أيّ منهم مصدر قلق وعبء ثقيل عليه.
يقدّم “آزاد” كما الرواية الصادرة بالعربية عن دار صفصافة للنشر والتوزيع في القاهرة بترجمة من جوان تتر، وبفضل عمله هذا، معاناة المهاجرين، ومغامراتهم المؤلمة التي طحنت نفسيّات الكثير منهم، كما كشفت عن صدمات بلد بات مُنقسماً، ببل نتعرف سرديّاً، عبرها، على قصة حب قديم، بموازاة رصد المشاهد والمواقف الواقعية، ما يجعل من “99 خرزة مبعثرة” رواية بانورامية ترصد معاناة الأقليّات، وخاصة الأكراد في سورية، ومعاناة اللاجئين الجدد ما بعد العام 2011 إلى أوروبا، وألمانيا تحديداً، عبر حكايات ذات طابع إنساني مفعم بالتفاصيل، في سرد مُحكم.
تبدأ الرواية بمشهد قتل حيث يعيش حليم يوسف الروائي في برلين، ذهب ضحيّته رجل غزا الشيب رأسه، فيما القاتل عشريني طوله مئة وتسعين سنتيمتراً، فكان المشهد الذي دفعه للكتابة، وكأنها نهاية شخصية روايته المحورية “آزاد”، ما بعد عقدين أو يزيد قليلاً في المهجر الأوروبي، على يد شاب يبدو عنصرياً ضد المهاجرين، خاصة أن الضحية كما هو “آزاد” كان يلّف كلّ منهما مسبحة على معصمه، الأول انفرطت بعد مقتله على الأرض، والثاني ظلّ متمسكاً بها، هي التي أهدته إيّاها يوماً معشوقة مراهقته في “عامودا”، مع عدم تجاوز حالة التماهي ما بينهما، فهو حال الضحية كردياً شاب شعره في المنفى، بعد أن شابت دواخله في سجون النظام السوري، وعلى وقع تعذيبه الشرس، وكأن الروائي نفسه، والناجي من قتل كان يطال الكثيرين في زنازين ما يفترض أنها بلاده، يخشى أن ينتهي به المطاف كما صاحب الشعر الأبيض الذي هو أو يكاد “آزاد” أيضاً.
واستبدل الروائي هنا “الفصول” و”الأبواب” بـ”الخرزات”، فكانت “الخرزة 1: خرزة بداية الخيط”، و”الخرزة 2: خرزة الترجمة”، و”الخرزة 3: خرزة شمال العالم”، و”الخرزة 5: خرزة روح أمي”، و”الخرزة 9: خرزة السبحة”، و”الخرزة 13: خرزة القراءة”، و”الخرزة 14: خرزة الرئيس الكبير”، و”الخرزة 16: خرزة السجن”، وهكذا وصولاً إلى “الخرزة 99″، متأرجحاً ما بين أكثر من جغرافيا وأزمنة متعددة، وشخوص عابرين دون أن تمرّ حكاياتهم بلا أثر عميق يحفر في دواخلنا، هم من بقوا حبيسي مآسيهم على المستويين الشخصي والعام.
ويبدو أن الرواية سيرة ذاتية، أو فيها شيء من سيرة ذاتية، فـ”آزاد” الذي ولد لعائلة كردية، وحين بات طالباً في المدرسة، أخذ يترجم لوالده الذي لا يتقن إلا الكردية الأخبار الناطقة بالعربية حول “الحرب”، بينما حليم يوسف نفسه، واسمه عبد الحليم يوسف المحمود، ولد في “عامودا” أيضاً العام 1967، لأب كردي فرّ من تركيا إلى سورية، وأم كردية سورية، ومع ذلك لم يكن الأب يجيد التركية ولا الأم تجيد العربية، وظلت الكردية لغة التواصل في العائلة.
ومن هنا وفي ظل عائلة متعددة الثقافات، نراه، وعلى لسان “آزاد”، ينتقد رافضي الاختلاف، ويتساءل باستهجان لا يخلو من استنكار، بل ورعب: “لمَ يكره هؤلاء الاختلاف؟ لمَ يُصرّون على أن يكون جميع الناس مثلهم؟.. بحثتُ عن سرّ هذا المطلب الغريب لدى الإنسان.. لمَ لا يُحبّون الأعراق والألوان واللغات الأخرى، والناس الآخرين.. هذا خيال الذي يقتلع كلّ الألوان المختلفة، ويجعل من العالم ذا لونٍ وحيد، أو أن يتشابه كلّ الناس في كل شيء، وألّا يختلفوا.. كان الأمر يخيفني”.
وما ينطبق على رافضي الاختلاف من “الجنرال” وحاشيته في بلاده التي فرّ منها “آزاد” كما خالقه السرديّ، ينطبق على اليمينيّين العنصريّين في الغرب من رافضي الهجرة والمهاجرين، حدّ قتلهم والتنكيل بهم.
“المترجم، ولا سيما من هو مثلي أمضى سنواتٍ في هذا العمل، مهندسٌ في إخفاء الألم، فهو يُترجم إلى لغة أخرى آلام كلّ شخص، رؤاه، أفكاره، كلامه ومفرداته كلها، يحاول أن يوفق بينها، يضفي عليها مسحة آدمية، يحاول أن يلبسها أجمل الثياب، ومن ثم يُرسلها إلى الطرف الآخر.. ولكن تبقى له أحزانه وآلامه ورؤاه وأفكاره وكلماته، تجتمع كلها فوق بعضها، وتعلو وتغلي، ومن ثم تنفجر دون أن ينتبه أحدٌ إلى الأمر.. إلى الآن كنتُ السبيل إلى أن يفهم الآلاف بعضهم الآخر، لكنّني، وحتى الآن، لم أتمكّن من فهم الغريب الذي بداخلي، لا أعرف ما اللغة التي يتقنها، ربما كنت سأبحث عن مترجمٍ شخصيّ لي (…)”.
ولم يكتفِ الروائي كما الراوي “آزاد” بسرد قصّته كمضطهد وهارب من بلاده، بل قصّ حكايات مشابهة لمن فرّوا من بلادهم إلى برلين، كحكاية “حمزة” الذي هرب من تركيا بعد أن أحرقوا قريته بما فيها بيته لكونها “كردية”، وحكاية أحمد الكركولي الذي فقد عائلته بأكملها تِبعاً لمشروع “تعريب كركوك”، وحكاية “هدى” السوريّة التي أمضت سنوات في سجون نظام بلادها تحت التعذيب، وغيرهم، كالفتى “حسينو”، ابن “عامودا”، وابن معشوقة “آزاد” صاحبة المسبحة التي شكلتها 99 خرزة كما الرواية.